مهند حبيب السماوي
يعد مفهوم الجمال في حد ذاته من القضايا التي يتم مناقشتها والتطرق لها في أروقة الدراسات الفلسفية والفنية التقليدية، وضمن مبحث ما يعرف بالقيم “الاكسيولوجيا” التي يتناول فيها عدة موضوعات منها الشعور بالجمال والاحساس به ومعاييره الذاتية او الموضوعية، فضلا عن المبادئ العامة التي تؤطر دلالات الجمال وارتباطه بالذات وعوالمها الداخلية او السياق الظرفي الذي ينشأ فيه، ويتحكم في الحكم عليه.
العصر الرقمي وتطبيقاته
وفي العصر الرقمي الحالي الذي اجتاحت” تطبيقاته الالكترونية ” ارجاء العالم، وأحدثت فيه تطورات جذرية ونقلات نوعية اثرت على جميع مجالات الحياة ومظاهرها ومفاصلها، فقد وجدنا للجمال، كتجسيد شخصي في وجه الانسان او كفكرة عامة مجردة، نصيبا كبيرا من التأثر بما حدث في هذا العصر من تغييرات دراماتيكية مسّت بكل تأكيد صميم الذات البشرية.
فمن خلال بعض التطبيقات الالكترونية، التي اصبحت من سمات العصر الرقمي،حدث كم هائل من التغييرات التي ضربت مفهوم الجمال الطبيعي للإنسان وهشّمت دلالاته وغيّرت نظرته عن نفسه وكيفية الحكم عليه لدرجة أدت هذه التطبيقات الى افساد وتخريب العلاقة بين المرأة ووجها وجسدها وبشكل مثير للدهشة والاستغراب.
دراسات وابحاث
ان قراءة موضوع تنميط الجمال بشكل محدد وتقديم صورة معينة عنه مقيّدة بإطر ما وقواعد وضعتها التطبيقات الالكترونية قد شخصّتها الكثير من الأبحاث الرصينة والدراسات الموثقة التي لها علاقة جوهرية بتداعيات استعمال بعض تطبيقات التراسل الفوري التي نجد فيها عمليات واضحة لتعديل الملامح وبرامج الفلترة وتغيير الوجه واظهاره على شكل مثالي يبدو انه خالٍ من العيوب ومتناسب مع غايات المستخدم التي تنحصر في هدفين احدهما شخصي يتعلق بتحسين صورته واظهارها على نحو اجمل ومثالي، او تسويقي يرتبط بالترويج لمنتجات معينة لغايات تجارية وهي الطريقة التي يستخدمها المشاهير ممن يعلنون عن مواد تجميل معينة بهدف الربح فقط.
وقد شعرت الكثير من الدراسات والأبحاث بمديات خطورة مايحدث حاليا وما سيحدث في المستقبل من تداعيات تتعلق بصورة الانسان عن نفسه وتقديره لذاته، إذا استمرت التطبيقات الالكترونية، وخصوصا سناب شات وانستغرام، تمعن في الايغال بمنهجها الذي ادى لتغيير مفاهيم الجمال ورسم صورة جديدة عنه تتسق مع مقتضيات عصر التطبيقات الالكترونية.
الأبحاث التي تم نشرها في هذا الصدد كثيرة كانت ومازالت تؤشر على هذا الظاهرة التي وصلت الى حد الهوس عند بعض الفتيات اللواتي يقفن “مشدوهات” امام ما يحدث امامهن في عالم الجمال والموضة، حيث تتقافز امامهن في كل ساعة ” صور ومقاطع ” لنماذج وجوه واجساد نسائية، وهن يتصفحن هذه التطبيقات، خصوصا من جيل ” زد ” الذي يعيش مع التطبيقات الالكترونية ومواقع التواصل بكل جوارحه ويقضي معها اغلب اوقاته يومه.
تأثير كاردشيان والتطبيقات
من وجهة نظري الشخصية ان هنالك عاملين ساهما في تغيير نظرة المرأة لصورتها وأدت بها الى عدم اقتناعها بجسدها ورضاه عنه ومحاولة تغييره وفقا للتقنيات المتوفرة الدائمية من خلال عمليات التجميل او المؤقتة من خلال برامج الفلترة في بعض التطبيقات:
العامل الأول : تأثير بعض النساء، ممن يُعرفن بــ”مشاهير السوشيال ميديا “، على المراهقات وعلى نظرتهن للجمال، ولعل اهم نموذج ومثال يتم ذكره في هذا الصدد هي ” النجمة المشهورة ” كيم كاردشيان وعائلتها، حيث تحدثت دراسة عما يمكن تسميته ” تأثير كاردشيان ” The Kardashian Effect ” نسبة اليها، حيث أصبحت ايقونة للجمال عند الاف النساء، عن طريق نموذج جسدها ” النحيف السميك ” الذي يتألف من ” خصر صغير وبطن مسطح ” بالإضافة الى ” المؤخرة والثديين والفخذين الممتلئين “، وخلص البحث الى نتيجة مفادها ان محاولة الوصول الى جسد كاردشيان يمكن ان تتسبب في العديد من الظواهر المرضية مثل اضطراب الاكل وسلوكيات غير صحية وتدني احترام الذات والقلق الاجتماعي، وبالتالي تسببت كاردشيان وعائلتها بإستياء المرأة من جسدها وكراهيتها لصورتها وعدم تقبلها لمظهرها .
العامل الثاني : دور تطبيقات التراسل الفوري، ومن أهمها سناب شات وانستغرام، في رسم صورة وتقديم نموذج للجمال يكون هو الأنسب والأفضل للمرأة، من خلال عمليات تجميل رقمية مؤقتة تتم بواسطة فلاتر هذه التطبيقات التي اصبح استعمالها ظاهرة واسعة الانتشار من خلال العديد من النساء والتي تستخدمها من اجل إضافة تعديلات على وجوههن ومظهرهن ، وتوصلت دراسة علمية حول استخدام برامج تعديل الصور على تطبيق سناب شات، إلى أن الإناث اللواتي يستخدمن برامج تعديل الصور أكثر نزوعاً لنشوء اضطراب صورة الجسم، وبذلك ينشأ لديهن خلل في الصورة الذهنية لشكلهن وملامح الوجه .
تسريب فيسبوك
واتساقا مع هذه الابحاث …أستنتج بحث داخلي لشركة فيسبوك،في شهر آذار من عام 2020، ان منصة انستغرام، وهي التطبيق الذي يُستخدم بشكل مبالغ به من قبل المراهقين والمراهقات على حد سواء، مضرة لصورة المراهقات الجسدية وللرفاهية التي يشعرون بها، بل كشفت الدراسة وبينت أن 32٪ من المراهقات المستجوبات فيها قُلن إن إنستغرام فاقم شعورهن بالخجل بشأن أجسامهن !
وبلا شك …احدث الخبر المتعلق بالبحث الأخير دوياً في الاوساط التكنولوجية والتربوية المهتمة بالموضوع خصوصا مع ما تضمنه الخبر من حقيقة مؤلمة تؤكد ان فيسبوك ” التي بدلت جلدها الى ميتا ” كانت تعلم بالآثار المظلمة والتداعيات المؤلمة والاضرار السلبية لمنصة الانستغرام على صورة المراهقات ، ومع ذلك لم تتخذ خطوات عملية وجادة من اجل ايقاف هذه النتائج السلبية وتدفق آثارها النفسية على المراهقات من اجل استمرار أرباحها على النحو الهائل المعروف.
زووم ديسمورفيا
وحينما يتم التطرق الى الابحاث اعلاه، لابد من المرور على ظاهرة حديثة ” ترتبط بموضوعنا ” حدثت اثناء جائحة كورونا وخلال اعتماد الالاف على تطبيقات الاتصال الفيديوي في اجتماعات العمل، وهي ظاهرة زووم ديسمورفياZoom Dysmorphia، او اضطراب تشوه الجسم.
لاحظ أطباء التجميل ان هنالك عددا كبيرا من الذين زاروهم لغرض التجميل قد تأثروا باجتماعات تطبيق زووم، حيث انتبه الكثير منهم، وخلال هذه الاجتماعات، لوجود مشاكل تتعلق بوجوههم ! خصوصا ان المكالمات المرئية جعلت مستخدميها أكثر انتباها إلى عيوبهم الشكلية، وبدأوا في التركيز على عدة اشياء مثل حجم الانف او ترهلات الجلد وغيرها ، ما دعاهم لزيارة أطباء التجميل من اجل حل هذه المشكلة، وبذلك يكون تطبيق مثل زووم قد ساهم أيضا في تغيير النظرة للجمال،كما هو الحال في ” سناب شات ديسمورفيا ” التي قادت عددا كبيرا لعيادات التجميل بعد ان لم يعجبهم وجههم الحقيقي الذي ظهر امامهم مباشرة في كاميرات السناب !
نمطية الجمال
ان تقنيات التجميل الحديثة التي منحتها التطبيقات الالكترونية وخصوصا ” سناب شات وانستغرام ” قد ساهمت في تسويق مفهوم معين وصورة محددة للجمال اصبحت شيئا فشيئا معيارا يفرض وجوده وقيمه على النساء ممن وقعن تحت تأثيره الساحر و خيالاته الخلابة من خلال الحصول على بشرة نقية وصافية جدا ووجه مشرق ولامع ولون عيون براقة وساحرة وملامح مثالية مرسومة تفاصيلها بدقة بسبب هذه التطبيقات التي تتلاعب بصورة الوجه بشكل يُظهرها على غير حقيقتها وتؤدي، بالتالي، لعدم تقبل المراهقات لصورهن الطبيعية واجسادهن الحقيقة .
ان الخطر الأكبر في هذا الموضوع لا يكمن في احتكار الجمال بنمط معين يحدده المشاهير او التطبيقات فقط، بل في إضفاء قيمة جوهرية ومعيارية للشكل لدى المراهقات ممن لم تُصقل شخصيتهن في هذا العمر ولم تتبلور في صورتها النهائية وبذلك يصبح تقليد صورة جسد كاردشيان وعيون ” الفاشنستا” الفلانية هدفا في ذاتها وغاية مهمة في الحياة تعمل على الوصول لها بشتى الطرق والوسائل التي تتوفر لديها.
وبلا شك حينما لا تصل هذه الفتاة لهذه الصورة ” المعيارية ” التي في ذهنها فانها ستعاني من اضطرابات نفسية عديدة كالكآبة والقلق والضجر، وحالة من عدم التصالح مع نفسها ، بل تفقد أصلا احترامها لذاتها الحقيقية وشخصيتها التي تحملها معها بدون ” فلاتر” التطبيقات !
وهكذا فان التطبيقات قد اضطلعت بمهام جديدة فلم تقتصر وظيفتها على مجرد كونها ادوات للاتصال بين البشر، او للاستمتاع والترفيه، بل تحوّلت الى مولّد للقيم وخالق لنمط محدد للتفكير وللعيش وللسلوكيات، والانكى من كل هذا ان هذه ” القيم ” يتم تسويقها من قبل شخصيات ” فارغة ” المضمون وغير مؤهلة مطلقا للعب هذا الدور المهم الذي يؤثر على شخصيات وسلوكيات ملايين المراهقين والمراهقات .
ومع كل هذا ” الدمار الذاتي ” و” استلاب الشخصية ” الذي يحصل، وبرغم كل الجهود التي تحاول المنصات ان تقوم بها للتقليل من آثارها السلبية ، فان القادم قد يكون ادهى واكثر سوداوية، حيث ان عالم الميتافيرس المعاصر وأجهزة الواقع الافتراضي ونظارات الواقع المعزز تشير الى نشوء عالم جديد تتحكم فيه العوالم الافتراضية بالشخصية الإنسانية بشكل يفوق التصور، حيث الواقع الحقيقي الذي تعيش به الذات سيصبح مجرد غفوة بسيطة في عالم الميتافيرس!
مهند حبيب السماوي