مهند حبيب السماوي
في اطروحتي للدكتوراه عن مخاضات العصر الرقمي وتحدياته المتعلقة بأنساق الحقيقة واشكالها، وانماط المعلومات المضللة وتجلياتها، تطرقت لموضوع سمات عصر ما بعد الحداثة الذي دخلنا في تعقيداته منذ سنوات، والاحداث التي شكلت بداية هذا العصر، والأوصاف المتعددة التي منحها الباحثون والمختصون له مستندين في ذلك الى العوامل التي تحكمت في العصر، ورسمت خرائطه، ومنحته سمة طاغية ميزته عن غيره من العصور التي سبقته.
يشير الباحث ستيف ديننغ، في مقالة مهمة له بعنوان ” How The Digital Age Is Reinventing (Almost) Everything “، الى لحظة حاسمة في تاريخ البشرية أرخت، من وجهة نظره، لبدء العصر الرقمي، وهي لحظة اعلان الراحل ستيف جوبز، إطلاق هاتف الايفون، في عام 2007، والذي غيّر من طريقة تعامل الانسان مع العالم من حوله، وقدم نموذج مغاير ومختلف للهواتف السائدة في ذلك الوقت، بسبب طبيعة الإمكانيات المذهلة التي منحها للمستخدم، فضلا عن الفضاءات والخيارات اللامحدودة التي انبثقت في افق الانسان بسبب استخدامه لهذا الجهاز واعتماده كأداة مهمة للتواصل والاتصال والعمل والترفيه.
وقد أعلنت ابل، في هذه الأيام، عن اتاحة منتج جديد، سيكون له اثر ثوري في عالم التقنية قد يصل لدرجة ما قام به جهاز الايفون في لحظة اطلاقه عام 2007، وهو نظارة او خوذة الواقع فيجن برو Vision Pro، التي وصفها سام التمان، الرئيس التنفيذي لشركة Open AI للذكاء الاصطناعي التوليدي، بانها ثاني اكثر التقنيات اثارة للأعجاب بعد جهاز ايفون، وذلك من خلال جعل المستخدم ينغمس في عوالم رقمية وفضاءات افتراضية ثلاثية الابعاد، يؤدي فيها كل وظائف الهاتف والحاسبة وما يرتبط بهما من اعمال من خلال تجربة جديدة ممثلة بما يُعرف بالحوسبة المكانية التي لم يشهد تاريخ البشرية نظيرها على الاطلاق.
تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة أبل، أوضح، في لحظة الإعلان عن الجهاز، في حزيران من العام الماضي، في مؤتمر المطورين السنوي WWDC 2023، بان شركة ابل تعلن عن حقبة جديدة في الحوسبة، فمثلما قدَّم لنا جهاز الماك الحوسبة الشخصية، وقدَّم لنا الآيفون الحوسبة المحمولة، فإن نظارة آبل فيجن برو تُقدِّم لنا الحوسبة المكانية! وهو المفهوم الذي طرحه، لأول مرة، المدرس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، سايمون غرينولد عام 2003، لكن شركة ابل، بسلطتها التقنية الكبيرة، وسطوتها المعروفة، قد منحته زخما جديدا وسلطت الضوء عليه، واعادت احياءه من خلال نظارتها الجديدة التي لازال الجدل حولها مستمرا منذ لحظة الإعلان عنها وحتى هذه اللحظة.
الحوسبة المكانية Spatial Computing هي تقنية خلّاقة تجمع بين العالمين المادي الواقعي والافتراضي الرقمي، وتدمجهما على نحو يظهر فيه المحتوى الرقمي في العالم الواقعي ويكون جزءا منه، فتخلق بيئة افتراضية جديدة ثلاثية الابعاد تسمح للمستخدمين بالتفاعل معها، والتعامل مع ادواتها، والانغماس بها، بطريقة سلسة سريعة غامرة مدهشة لحظية تضيع فيها حدود العوالم المختلفة، وتتداخل فيما بينها، وعلى نحو كنا نتصوره ضربا من الخيال في السنوات السابقة.
ان مصطلح الحوسبة فضاء شامل يقع تحت خيمته عدة مفاهيم تشكل عصب التكنولوجيا الحالية في الكثير من المفاصل، مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR)، والواقع المختلطMR) ) والواقع الممتد (XR) ، والتي جمعتها شركة ابل ودمجتها في منتج واحد تمثل في هذه النظارة التي دشنت تجارب وخبرات جديدة يغرق المستخدم فيها في عالم ثريّ، قد يستبدل مستقبلا ويحل محل اجهزة الهواتف والحواسيب وشاشات التلفاز وأجهزة الايباد.
من وجهة نظري واطلاعي على هذا العالم، ان الانسان، المستخدم، وفقا لاصطلاح الشركات التقنية، قد ضل منذ تصنيع هذه الأجهزة، حبيس شاشاتها التي يستعملها سواء كانت هاتفا او تلفازا او حاسبة ، حيث ان كل من الأجهزة المذكورة، على اختلاف درجة تطورها، قد وضعت لنفسها حدود معينة يتحرك في مساحتها المستخدم حينما يستخدمها، وهي شاشاتها التقليدية التي هي جزء محوري منها، ولكن في حالة الحوسبة المكانية قد وجدنا ثورة على هذا النسق التقليدي في التعامل مع الأجهزة وشاشاتها.
فنظارة فيجن برو، التي تعتبر حاليا خير معبر وأفضل تجسيد للحوسبة المكانية، قد افتتحت عهدا جديدا لمرحلة ما بعد الشاشات! حيث لم تعد تتحكم الشاشات بالمستخدم وهو محكوم بحدودها، بل ان كل الأماكن في العالم هي شاشات للمستخدم ويستطيع حملها معه، ونصبها، ان صحت العبارة، في أي مساحة، كما يمكن له ان يتعامل ويتفاعل مع برامجها، باي وقت واي ظرف وأي مكان بسلاسة ودقة وصفاء بشكل ثلاثي الابعاد قريب، او متداخل ومندمج، في الواقع.
فالمستخدم هنا قادر على فتح عددا لامحدود من الشاشات او النوافذ الافتراضية، ووضعها وتثبيتها رقميا في أي مكان، بل تغيير حجمها وتحريكها في الفضاء، والتحكم بها بشكل جديد وغير معهود لدى مستخدمي الهواتف والأجهزة التقنية الأخرى طيلة السنوات الماضية.
ولم تكتفي الحوسبة المكانية في منح هذا الخيار ” المدهش” للمستخدم، بل ان التحكم في هذه الأجهزة قد تغيّر، حيث نجد ان العين أصبحت هي الأداة التي بواسطتها يستطيع المستخدم التحكم بهذا العالم، وذلك عبر تقنية جديدة ناشئة طورتها شركة ابل، حيث يتم فيها تتبع حركات قزحية العين من قبل جهاز فيجن برو بكاميراته الدقيقة المتعددة، فتستجيب التطبيقات والنظارة للعين حينما تنظر للجزء المعني منها، والتي تتبعها بحركة في الهواء بأصابع اليد او التفوه بكلمات معينة لتنفيذ الأوامر واجراء العملية والحصول على النتيجة.
فمجرد النظر لاي تطبيق، يتم فتحه بعد حركة معينة تتم باليد، فالعين تصبح هي ” الماوس كما يطلق عليه” ويتم ملاحقتها من كاميرات ومستشعرات فيجن برو التي تتابع اين تنظر العين وبأقل من ثانية، لكي يتفاعل، أي تطبيق في النظارة، على الفور، ثم يتم معالجة الاوامر عبر حركة اليد او الصوت، وكل هذه التفاصيل والعمليات تندرج تحت مصطلح جديد هو Optic ID الذي يعتبر نظام مصادقة طورته شركة ابل يجري فيه تحديد هوية المستخدمين من خلال قزحية العين.
وبدون أدى شك ان استخدام منهج الحوسبة المكانية، وتطبيقاته في الاجهزة الحديثة سيغير الطريقة التي نتعامل بواسطتها مع الاخرين، ونعمل بها، ونستمتع بالترفيه والموسيقى والألعاب، اذ سيكون التفاعل مع كل هذه الأشياء، بطريقة مغايرة جدا للطرق التقليدية التي طورتها الشركات في العقود الاخيرة.
ان نظارة فيجن برو التي تمثل التطبيق الحقيقي لمجال الحوسبة المكانية، ستكون جزءا من عالم الميتافيرس الذي تمتزج فيه البيئات المادية والرقمية، وسيعبدون، جميعهم، الطريق نحو مستقبل جديد للأنترنت وتكنولوجيا الغد التي ستُشكل وتفرض قواعدها ومعاييرها على جميع المستخدمين على نحو تدريجي مرتبط بعدة عوامل، تتعلق بتطورات هذه التقنية وتقدمها، ونجاح الشركات في هذا المسار، فضلا عن تخفيض سعرها بشكل نسبي يستطيع المستخدم بسهولة شراءه، وهو الخيار المتوقع بشكل اكيد في ظل صراع الشركات القادم وتنافسها حول طرح مثل هذا المنتج.
ان الحوسبة المكانية، كمصطلح ناشئ يتضمن مساحات قد لا تتخيلها بعض العقول حاليا، سيتوغل في حياتنا بصورة تدريجية في الأعوام المقبلة، وسيحتل مساحات شاسعة في تفاصيل حياة الانسان، بل انه سيرسم، مع الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، مستقبل هذا العالم، عبر إعادة تأطير خريطة التكنولوجيا ومنتجاتها في مسارات متشعبة تنعكس بشكل مؤكد على كل مفاصل وجود البشرية وفضاءات علومها المختلفة وتطبيقاتها المتنوعة.
مهند حبيب السماوي
باحث دكتوراه فلسفة