مهند حبيب السماوي
يبذل المؤرخون والمفكرون، ومن مختلف التوجهات والمشارب، جهدا كبير في محاولة تسمية ووصف العصور المختلفة التي مرّت في التاريخ، والتي يقومون بدراستها وفحص دلالاتها واستكناه جوهرها الذي ينعكس في معالمها الحضارية ونتاجاتها التكنولوجية وأنساقها الثقافية وفضاءاتها السياسية وابعادها الاجتماعية وتجلياتها الاخرى التي تحدد، بدورها، ماهية هذه العصور، وتُعبّد، بالتالي، الطريق للتسمية الذي يمكن ان تُمنح لها، والاوصاف التي تُطلق عليها.
ولأن التكنولوجيا تطغى، بتطبيقاتها المتنوعة، في هذا العصر، وتتحكم، عبر ادواتها المتعددة، في كل مفاصله، وتتداخل، بأجهزتها المختلفة، في صميم اعمال الناس واستخداماتهم اليومية، ركز الباحثون على هذا المجال “القديم” بأصله “الجديد” بإبداعاته، وصبّوا عليه جلّ اهتمامهم، وهم يبحثون عن دالّة حقيقية تساعد في فهم العصر الحالي الذي نعيشه، وأدراك المحركات الفاعلة في سياق حركته التاريخية.
ونتيجة لذلك، أطلق الباحثون العنان لمصطلحاتهم في عملية وصف هذا العصر، فجاءت أكثر من عشرين وصف، كان من بينها مثلا، العصر الرقمي وعصر الخوارزميات وعصر المعلومات وعصر الذكاء الاصطناعي وعصر البيانات الضخمة وعصر الآلات الذكية وعصر الاخبار المزيفة وعصر عالم dot.com الى غيرها من الاوصاف المتعددة، والتي ناقشتها بالتفصيل في اطروحتي في الدكتوراه في ثنايا التعرض بالتفصيل للعصر الرقمي وتعريفاته ودلالاته.
ومما لا شك فيه ان كل تسمية من هذه الأسماء والاوصاف تشير لتوجه ما سائد في العصر او تستند لأساس معين وجملة عوامل تمظهرت وتحكمت بالمشهد وسيطرت عليه فجاءت التسمية كأنعكاس لهذه التطورات والتغييرات التي التهمت الجو العام في هذا العصر وتحكمت بالفضاء الكلي فيه عبر منتجاتها وتطبيقاتها وادواتها.
ومهما بدا وجود اختلاف في هذه التسميات بين المختصين، لكن المعنى واضح، والدلالة ومضامينها متسقة في مآلاتها الى حد كبير، فهي تقود الى حقيقة ان التكنولوجيا بمفهومها العام والرقمنة بدلالتها الخاصة والذكاء الاصطناعي بمعناه الأخص قد أمسكوا بتلابيب العالم، وفرضوا وجودهم بكل جلاء، وان تجلياتهم، في مرافق الحياة المختلفة، باتت اكثر تغلغلا من توقعاتنا لها، بل ان المجالات التي ابتلعتها هذه المفاهيم، مع تطبيقاتها، تشي، بدون شك، بسيطرة عالم وليد من الممكنات على الفضاء العام ومساحاته، لدرجة ان هذا العالم الجديد البكر قد تمرّد على العالم السابق الذي احتضر رسميا منذ اللحظة التي بدأت فيها تباشير الرقمنة بالانبجاس في العالم.
وإذا كنا قد تحدثنا عن مصطلحات الباحثين وتنظيراتهم تجاه هذا العصر، فان المستخدم العادي لمواقع التواصل المختلفة يمكن ان يُلاحظ وجود هوس ببعض المصطلحات التي تزخر بها المنصات الرقمية وتسيطر على كل الفضاء العام فيه، فتجعل المستخدم، وهو يقلب بين يديه الهاتف وتطبيقاته، يشعر اننا نعيش في زمن التكبيس والاكسبلاور والترند والرائج!
فحالما تتصفح تطبيق منصة تيك توك، التي تزاحم الآن كبرى المنصات الاجتماعية في حجز موقع القمة، وإذا بك تسمع تكرار عبارات ” كبس – كبسوا – تكبيس-اكسبلاور” التي ينطق بها بعض أصحاب البث وهم يقدمون محتواهم، والتي تعني قيام المشاهد بالنقر على الشاشة خلال البث المباشر، حيث سيؤدي الى زيادة التفاعل، وظهور الحساب لدى الاخرين، وبالنتيجة الكثير من المشاهدات التي تقود لهدايا تترجم الى اموال.
وفي منصة تويتر، تجد مصطلح الترند هو الأكثر استعمالا وانت تقلب في هذه المنصة حيث هذا الاسم او ذلك الحدث المرتبط قد احتل الاهتمام الأكبر لدى مستخدمي المنصة، وان هنالك الاف التغريدات التي تتحدث عنه او تشير اليه مدحا او ذما او تحليلا، وكذلك الحال في رائج فيسبوك الذي يُصبح حديث مستخدمي الموقع الأزرق ممن يكتبون مئات المنشورات والصور التي تدور حوله.
والتكبيس، وما يتعلق به من مفاهيم اخرى، قد أمسى، شئنا أم أبينا، احدى الظواهر اللغوية الواضحة التي دخلت قواميس العصر الرقمي واكتسحت مساحاته، وهي ترتبط، في مضامينها، بالاقتصاد الحديث والتسويق الرقمي وتغيير انساق التجارة وأنماط المكاسب، حيث المستخدم يسوّق لنفسه ويحاول إعادة انتاجها وتقديمها والترويج لها بطريقة متناسبة مع العالم الافتراضي ومقتضياته.
وهذا يقودنا الى نتيجة تشير الى ان هذه الظواهر ليست منفصلة وعشوائية، بل هي أطار محدد ضمن خريطة ذات مسار واضح، ومحسوبة بدقة تبدأ بمحاول زيادة التفاعل مع الحساب، عبر القيام بتصرفات تتطلب ذلك، وان كان غير معقولة من وجهة نظر الآخرين، ثم يستتبع ذلك الشهرة ومعرفة الناس به، وبالتالي زيادة في عدد المتابعين على منصات التواصل، والتي تمنحه وصف مشهور، ما يؤدي لتواصل الشركات معه من اجل الإعلانات في منصته لإيصال منتجاتها للناس الذين هم مستخدمي مواقع التواصل ومتابعي صفحات المشاهير، وبالنتيجة، سيصبح الحساب على موقع التواصل مصدرا للحصول على الأموال وربما الثراء.
وهذا يعني اننا امام معادلة جديدة، في اقتصاد سوق عالم المشاهير، أطلق عليها، المعادلة الثلاثية للمشاهير، التي ترتكز على ثلاثة مكونات:
الأول: سلوك يؤدي للتفاعل.
الثاني: شهرة تنتج عن ذلك.
الثالث: الحصول على إعلانات الشركات.
وكل هذا يؤدي ويقود لسلطة ” بمعناها الرمزي وليس السياسي”، يمتلكها المشهور وتجعله يتغاضى على السلوكيات التي يقوم بها على منصته من اجل استمرار شهرته، ولذلك تجد الهوس بهذه الأهداف قد بلغ درجته القصوى، فهو طريق سهل لجني الأموال ولا يحتاج للتعليم والشهادة او لعمل مضني او جهد جهيد، حيث يكفي لشخص ان يفتح بث وهو في سرير غرفة نومه!، او في الحمام، ويقوم بالحركات المطلوبة التي توصله للمطلوب!.
ويبدو ان هذه الظواهر، وما يرتبط بها، لا تتعلق بمستوى عمري معين! او تعليمي محدد، او مجال ما من مجالات الحياة، بل تنطبق على كافة هذه المستويات، فقد يفعلها شخص كبير في السن، وقد يقوم بها مثقف، او قد يسقط في وحلها سياسي او مسؤول، حيث يخضع الجميع لها مع استثناء السياسي في قضية مقتضياتها المالية.
وهذا التحليل الذي نقدمه هو الذي يفسر وجود تصريحات لبعض الشخصيات السياسية ليس لها أي بُعد يتعلق بالسياسة! او قيام إعلامية بسلوك ما لا يرتبط مطلقاً بعملها ومسارها المهني، او رؤية منشورات صحفية تتناقض أصلا مع مبادئ العمل الإعلامي، حيث جميعها تسعى، سواء شعروا ام لم يشعروا، لركوب موجات التكبيس والترند!
ان جميع هذه الظواهر التي تطرقنا لها أعلاه تندرج فيما اسميها المعادلة الثلاثية ” تفاعل-شهرة-إعلانات”، والتي أصبحت غاية وهدف ليس للمراهقين فحسب ممن يعيشون وجودا رقميا أكثر من الوجود الحقيقي بل للكثير من الناس ممن يرغب ان يركب قطار المعادلة الثلاثية التي باتت تسيطر على سلوكيات ملايين الأشخاص وتغير قيمهم وكيفية تصورهم لمستقبلهم، وطرق كسب المال والشهرة والوصول للاهداف.
مهند حبيب السماوي
باحث دكتوراه فلسفة